هل الدراسة في الغرب أمر لازم لكل باحث؟
عندما نشرت مقالة طويلة حول دراسة العلوم الإسلامية والعربية في الجامعات الغربية حاولت التدقيق في تفاصيل لا يعرفها أغلب الباحثين العرب
وقد يخيل للبعض بعد قراءة المقال أن الدراسة في الغرب أمر لازم لا بد منه ولا غنى عنه، فهل هذا صحيح؟
هل الدراسة في الغرب أمر لازم وضروري لكل باحث؟
أم هناك سُبُل لتحصيل هذه المعارف من دون السفر للخارج؟
ومن قبل ذلك هل تحصيل المنتج العلمي الغربي أمر ضروري؟
الجواب الإجمالي:
الدراسة في الخارج أمر مهم لكنها ليست لازمة، ويمكن تحصيل أكثر المعارف المنتجة في الجامعات المختلفة حول العالم من دون سفر، وفي الوقت نفسه تحصيل هذه المعارف أمر واجب على الباحث.
فيما يتعلق بأمر السفر فإن الباحث في أيامنا هذه يمكن أن يطالع الإنتاج العلمي من دون أن يخرج من بيته، لذلك ليست هناك ضرورة حتمية لسفره، وإن كان السفر سيمنحه خبرات أخرى على هامش العملية التعليمية، لكن أيضا الباحث النابه يستطيع تحصيل أكثر ذلك في وجود اتصال بالإنترنت، مع بعض الحرص على التعلم والتحصيل.
وفيما يتعلق بوجوب تحصيل المعرفة المنتجة في الجامعات الغربية أو الشرقية في تخصصه، فهناك أمثلة لا حصر لها على خطورة الإخلال بذلك، لأن الباحث العربي قد يعمل على فكرة لسنوات وسنوات من دون أن يدري أن تلك الفكرة قد قتلت بحثا، وتجاوزها العلم بالكلية، وهذا مشاهد.. نحن جميعا نلاحظ أنه بعد أن ينطفئ بريق مدرسة أو منهج في العالم كله يبدأ بعض الباحثين عندنا في النقاش والتأليف حولها! كما يحدث في "العمانية" و"البنيوية" و"التفكيكية" .. إلخ
وسأضرب مثالا واقعيا يبين خطورة هذا الانقطاع المعرفي..
حاضر د خالد حسان في آخر شهر أغسطس الماضي في الصالون الثقافي بمعهد المخطوطات، وكان اللقاء بعنوان "تراث العربية اللغوي في النقوش المبكرة رؤية تحليلية مقارنة"، و د خالد أستاذ في النحو والصرف وله عناية بالتطور اللغوي ومعرفة بالقراءات القرآنية وكلها موضوعات مرتبطة بموضوع النقاش، المحاضر لديه معرفة قوية بتاريخ البحوث في هذا الموضوع خاصة المدرسة الألمانية، وأنا أعني تماما قولي "تاريخ المسألة"، لكن هناك انقطاع معرفي وفجوة هائلة بينه وبين الواقع المعرفي اليوم..
على سبيل المثال أكثر المحاضر جدا جدا جدا من الاستشهاد بالمستشرق الألماني برجشتراسر وقد مات (1933م)، وبالمستشرق الألماني أيضا بروكلمان وقد مات (1956م)
وقد أصابني ذلك بصدمة (تروما) لتوقف الاستشهاد عند هؤلاء!
لأن دراسة النقوش المبكرة الآن (ترند) في الجامعات الغربية، أو كما يقال (hot topic) خاصة في العقدين الأخيرين مع كثافة البعثات الميدانية وكشف عشرات الآلاف من النقوش (نعم عشرات الآلاف) التي تؤرِّخ لتطور الكتابة العربية بصورة لم يُعرف لها مثيل من قبل
وهناك أساطين معاصرين في هذا الباب لهم عشرات البحوث والمساهمات العلمية التي غيرت الكثير من المعارف السابقة.. على رأس هؤلاء العالم الإنجليزي مايكل ماكدونالد وتلميذه النجيب الأردني الأمريكي أحمد الجلاد والعالم الفلسطيني الأصل محمد مرقطن وغيرهم كثير، والأستاذ مرقطن له محاضرات كثيرة بالعربية وهو عالم ميداني شارك في العديد من الاكتشافات، وأحمد الجلاد مع صغر سنه لكنه أستاذ كرسي وله جهود كبيرة في المجال..
هؤلاء أعادوا تأريخ اللغة العربية المنطوقة والمكتوبة..
على سبيل المثال بعض النقوش العربية تضمنت مفردات عربية اطرد أكثر المفسرين القدامى على التصريح بأنها من المعرّب، ولكنها الآن وُجدت في بعض اللهجات العربية..
وهذا غير مستغرب في الحقيقية، ولا يقدح في علم النحاة أو المفسرين لأن اللغة العربية لا يحيط بها إلى نبي كما هو معلوم، والعلماء دونوا ما دونوه وفق ما بلغهم من العلم
وفي مسألة الخلاف الكبير حول تأريخ نقط الإعجام، فهناك نقوش فيه نقط واضح قبل الإسلام بقرنين على الأقل..
هذه أمثلة..
ويمكنك القياس على ذلك لإدراك حجم الفجوة المعرفية إن لم يتابع المتخصص كل جديد في تخصصه
ومما استغربته أيضا بجانب الاستشهاد بمصادر قديمة أصحبت جزءا من تاريخ العلم وليست من العلم نفسه، عدم عرض أي صورة للنقوش! واستنكر ذلك بعض المتداخلين واستغربه كما استغربته..
لذلك يتوجب على الدارس أن يطالع كل جديد حول تخصصه في كل مكان، ويُحدِّث معلوماته يوميا، ولا يستسلم لمعارفه مهما بذل فيها من جهد ومهما كانت ثقته بها
#أدوات_البحث_في_التراث
#تاريخ_الأفكار